علومه
تلقى أبو العلاء علومه الأولى في المعرة، فتعلم العربية من أهل بلدته، وتعلم مبادئ النحو واللغة على يد أبيه، ثم رحل إلى حلب يطلب الاستزادة على يد محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، ثم لم يلبث أن رحل إلى بغداد، وبقي فيها ما يقرب السنة وسبعة أشهر، يطّلع على ما وجد في خزائن بغداد من الكتب، والآثار الأدبية، حتى أحصى اللغة العربية واستعملها، كما لم يحصلها أو يستعملها أحد قبله أو بعده، وتعلم الحديث الشريف من أبيه وجده سليمان بن محمد، وأخيه أبي المجد، وجدته أم سلمة، وقد سمعه أيضاً من أبي زكريا يحيى التنوخي، حتى صار يلزم منزله ليتسنى له سماعه.
ذكاء أبي العلاء
ومما يروى عن ذكائه وحفظه أن جاراً له سماناً كان بينه وبين رجل من أهل المعرة معاملة، فجاءه ذلك الرجل، ودفع إليه السمان رقاعاً كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له، وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السمان له، وأعاد الرجل الرقاع إلى السمان، ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السمان وهو يتأوه ويتململ، فسأله عن حاله فقال: كنت حاسبت فلاناً برقاع كانت له عندي، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه؛ فقال لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما، وجعل يملي عليه معاملته وهو يكتبها إلى أن فرغ وقام، فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى وجد السمان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء فلم يخطئ بحرف واحد.
وكان صغيراً عندما حضر إليه جماعة من أكابر حلب الذين سمعوا بفرط ذكائه، وكان يلعب مع الصبيان، فقال لهم: هل لكم في المقافاة بالشعر؟ .. فقالوا: نعم. فجعل كل واحد منهم ينشد بيتاً وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ حفظهم وتغلب عليهم .
وأرسل أحد أمراء حلب برسول إليه يطلب كتاب "الجمهرة" الذي قيل إن اللغة التي ينقلها أبو العلاء هي منه، لكنه لم يرسله إلى الأمير حتى قرئت بكاملها عليه وقال للرسول: ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطري، خوفاً من أن يكون قد ابتعد منها شيء عن فكري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك فقال. من يكون هذا حاله، لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب وأمر برده إليه. ويحكى أنه شبه حبة اللوبياء بالكلية فور لمسه إياها، دون أن يدري ما هي، وهناك ثمة حادثة أخرى غريبة تدلنا على ذكائه الذي لم يكن عادياً، إذ أنه قبل دهوله بغداد أثناء رحيله إليها، وكان راكباً على جمل، مرّ بشجرة ، فطُلب إليه أن يطأطئ رأسه لوجود شجرة، ففعل، وعندما عاد إلى المعرة كانت الشجرة قد قطعت، لكنه طأطأ رأسه في ذات المكان، وعندما سئل عن السبب، قال: ها هنا شجرة.
وعندما رحل إلى بغداد وطلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد، فأدخل إليها، وجعل لا "يقرأ عليه كتاب" إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه، وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة من العلم؟.. فقال: ما سمعت شيئاً إلا حفظته، وما حفظت شيئاً فأنسيته. ولم يكن ليقتصر حفظه على ما يسمعه بالعربية، بل كان يحفظ ما يقال أمامه أو يتلى عليه بأية لغة كانت؛ فقد تحدث مرة تلميذه أبو زكريا التبريزي مع شخص من اذربيجان بلسانهم، فأعاد أبو العلاء بعد فترة جميع ما قالاه بذلك اللسان، وقد قال أحد مؤرخي أبي العلاء: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر عجبي منه فلما وصلت المعرة قاصداً الديار المصرية لم أقدّم شيئاً على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر فحدثت أخي عنها باللسان الفارسي وأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثم غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال خذ كتاباً ليس بغريب عنك إن حفظته؛ قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسية، إن شئت أعدته عليه، قلت: أعده؛ فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف؛ ولم يكن يعرف اللغة الفارسية..
وكان فوق ذلك كله يلعب الشطرنج والنرد..